أفرغ بقيّة كأسه في جرعة واحدة ثمّ مسح فاه بكمّه و خرج من الحانة , كان الطّقس باردا مع بضع قطرات من المطر تتلاعب بها الرّيح و تبعثرها.... الطّريق خالية إلاّ من صوت وقع قدميه عليها و مواء بعض القطط الضّالّة الذي يمزّق سكون الليل و صمته الموحش .
توقّف هنيهة سحب فيها سيجارة و أشعلها فلمح شبحا أظهرته شُعلة القدّاحة لكنّه لم يعره اهتماما ربّما كان أحد المتشرّدين الذين يقضون ليلهم في الأزقّة المظلمة لكنّه خيّل إليه أنّه يسمع بكاء خافتا فأرهف سمعه و انتبه له !!! فعلا إنّه نحيب . اتّجه نحو مصدر الصّوت قائلا : من هناك ؟؟؟ ...... لم يشعر بالخوف فقد خَبِرَ الليل و مفاجئاته الغير السّارّة في غالب الأحيان . لم يسمع ردّا لكنّه واصل تقدّمه ثمّ أشعل القدّاحة !!! لمحها في زاوية ترتجف خوفا و بردا شابّة في مقتبل العمر ترتدي ما لا يسترها من الثّياب . من تكون يا ترى ؟؟؟ هل هي إحدى فتيات الليل ؟ أم هي غريبة ظلّت طريق العودة ؟ تقدّم نحوها ببطء و حذر ... ؟ لماذا أنت هنا في هذه السّاعة المتأخّرة من الليل ؟ أتنتظرين أحدا ؟
حاولت الفرار لكنّه أمسكها من ذراعها قائلا : لا داعي للخوف والفرار فأنا لا أنوي بك شرّا بنيّتي بالعكس فأنا أعرض عليك المساعدة و العون , ثمّ أفلت ذراعها من قبضة يده فلم تفرّ لكنّها أجهشت بالبكاء . قدّم لها منديلا ثم خاطبها بهدوء : كفكفي دموعك و قصّي عليّ ما حلّ بك فربّما أستطيع مساعدتك قال لها تلك الكلمات بنبرة تحمل الكثير من الجدّيّة و الإقناع ثمّ نزع معطفه و ألبسها إيّاه فنظرت إليه بامتنان و عرفان لم يلمحهما في الظّلام الحالك ثمّ حدّثته بصوت مرتعش تقطعه شهقاتها بين حين و آخر...و قالت :
سيّدي أنا أصيلة منطقة ريفيّة تدعى ........ أنتمي لعائلة معدمة و كبيرة العدد انقطعت عن تعليمي بسبب ضيق ذات اليد فوالدِي انتقل إلى مثواه الأخير تاركا والدتنا وحيدة تجاهد حتّى توفّر لنا لقمة العيش , و في يوم زارتنا قريبة لنا و معها صديقاها مدير شركة و زوجته الأستاذة و طلبت من أمّي أن أنتقل إلى مدينتكم للعمل كمعينة منزليّة لقاء أجرة مُغرية جعلتها توافق مرغمة لحاجتها الملحّة إلى النّقود . انتقلت إلى العيش مع تلك الأسرة في منزلهم الفاخر . فرحت بِيَ الأستاذة و اعتبرتني بمثابة ابنتها و كانت تعاملني باحترام و تعلّمني الكثير من الأشياء التي أجهلها كما إنّها وعدتني بالتّكفّل بمصاريف زواجي عندما يحين الوقت . كنت أعيش سعادة غامرة لا يعكّر صفوها سوى بُعدي عن عائلتي و نظرات صاحب البيت التي كنت أتجاهلها و أجهل معناها حتّى أَفْصَحَ عنها هذه الليلة المشئومة...ثمّ علا نحيبها و تسارعت شهقاتها فأمسكت عن الكلام هنيهة ...
يتبع